فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي: محصنين، استعار لفظ الإحصان وهو الامتناع في المكان الحصين للامتناع بالعقاب، واستعار لكثرة الزنا السفح وهو صب الماء في الأنهار والعيون بتدفق وسرعة، وكذلك: فآتوهن أجورهن استعار لفظ الأجور للمهور، والأجر هو ما يدل على عمل، فجعل تمكين المرأة من الانتفاع بها كأنه عمل تعمله.
وفي قوله: {طولًا} استعارة للمهر يتوصل به للغرض، والطول وهو الفضل يتوصل به إلى معالي الأمور.
وفي قوله: {يتبعون الشهوات} استعار الاتباع والميل اللذين هما حقيقة في الإجرام لموافقة هوى النفس المؤدي إلى الخروج عن الحق.
وفي قوله: {أن يخفف}، والتخفيف أصله من خفة الوزن وثقل الجرم، وتخفيف التكاليف رفع مشاقها من النفس، وذلك من المعاني.
وتسمية الشيء بما يؤول إليه في قوله: أن ترثوا النساء كرهًا، سمي تزويج النساء أو منعهن للأزواج إرثًا، لأن ذلك سبب الإرث في الجاهلية.
وفي قوله: {وخلق الإنسان ضعيفًا} جعله ضعيفًا باسم ما يؤول إليه، أو باسم أصله.
والطباق المعنوي في قوله: وعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا، وقد فسر الخير الكثير بما هو محبوب.
وفي قوله: {والمحصنات من النساء}، أي حرام عليكم ثم قال: {وأحل لكم}.
والذي يظهر أنه من الطباق اللفظي، لأن صدر الآية حرمت عليكم أمهاتكم، ثم نسق المحرمات، ثم قال: وأحل لكم، فهذا هو الطباق.
وفي قوله: {محصنين غير مسافحين}، والمحصن الذي يمنع فرجه، والمسافح الذي يبذله.
والاحتراس في قوله: {اللاتي دخلتم بهن} احترز من اللاتي لم يدخل بهن، وفي وربائبكم اللاتي في حجوركم احترس من اللاتي ليست في الحجور.
وفي قوله: {والمحصنات من النساء} إذا المحصنات قد يراد بها الأنفس المحصنات، فيدخل تحتها الرجال، فاحترز بقوله: {من النساء}.
والاعتراض بقوله: {والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض}.
والحذف في مواضع لا يتم المعنى إلا بها. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا}.
فسبحانه بعد أن قال: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} ليبصر، و{يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} ليغفر، والآن يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} ليسر، وهي ثلاثة أمور هامة. ويقول سيدنا ابن عباس رضي الله عنه وعن أبيه: في سورة النساء ثماني آيات لأمة محمد هي خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب:
الأولى قول الحق: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26].
والثانية هي قول الحق: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27].
والثالثة هي قول الحق: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28].
والرابعة هي قول الحق: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31].
والخامسة هي قول الحق: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48].
والسادسة هي قوله سبحانه: {وَمَن يَعْمَلْ سُواءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 110].
والسابعة هي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40].
{مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147].
هذه هي الآيات الثماني التي لم تؤت مثلها أمة إلا أمة محمد عليه الصلاة والسلام. ومنها قول الحق: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا}. وما هو ضعف الإنسان؟. الضعف هو أن تستميله المغريات ولا يملك القدرة على استصحاب المكافأة على الطاعة أو الجزاء على المعصية، لأن الذي تتفتح نفسه إلى شهوة ما يستبعد غالبًا- خاطر العقوبة، وعلى سبيل المثال، لو أن السارق وضع في ذهنه أن يده ستقطع إن سرق، فسيتردد في السرقة، لكنه يقدر لنفسه السلامة فيقول: أنا أحتال وأفعل كذا وكذا كي أخرج.
إذن فضعف الإنسان من ناحية أن الله جعله مختارا تستهويه الشهوات العاجلة، لكنه لو جمع الشهوات أو صعد الشهوات فلن يجد شهوة أحظي بالاهتمام من أن يفوز برضاء ولقاء الله في الآخرة.
وقول الحق: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} نلحظ فيه أن التخفيف مناسب للضعف، والضعف جاء من ناحية أن الإنسان أصبح مختارًا وخاصة في أمور التكليف، فالذي جعل فيه الضعف جعله مختارًا يفعل كذا أو يفعل كذا ولكل أمر مغرياته.، ومغريات الشهوات حاضرة. ومغريات الطاعة مستقبله فهو يغلب دائمًا جانب الحاضر على جانب المستقبل. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}.
فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بَيَانُ بَقِيَّةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ نِكَاحِ النِّسَاءِ وَحَلِّ مَا عَدَاهُ، وَحُكْمُ نِكَاحِ الْإِمَاءِ، وَمَا فَصَلْنَاهُمَا عَمَّا قَبْلَهُمَا إِلَّا لِأَنَّ مَنْ قَسَّمُوا الْقُرْآنَ إِلَى ثَلَاثِينَ جُزْءًا جَعَلُوهُمَا فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ الْخَامِسِ، وَقَدْ رَاعَوْا فِي هَذَا التَّقْسِيمِ مِنَ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، وَكَانَ الْمُنَاسِبَ لِلْمَعْنَى أَنْ يَجْعَلُوا أَوَّلَ الْجُزْءِ الْخَامِسِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [4: 29]، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، أَيْ: وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ، وَالْمُحْصَنَاتُ: جَمْعُ مُحْصَنَةٍ بِفَتْحِ الصَّادِ، اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَحْصَنَ عِنْدَ جَمِيعِ الْقُرَّاءِ، وَرُوِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ كَسْرُهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَقَطْ، وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ الْفَتْحُ عَنْهُ، وَالْإِحْصَانُ مِنَ الْحِصْنِ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمَنِيعُ الْمَحْمِيُّ، فَفِيهِ مَعْنَى الْمَنْعِ الشَّدِيدِ، وَيُقَالُ: حَصُنَتِ الْمَرْأَةُ- بِضَمِّ الصَّادِ- حِصْنًا وَحَصَانَةً، أَيْ: عَفَّتْ فَهِيَ حَاصِنٌ وَحَاصِنَةٌ وَحَصَانٌ وَحَصْنَاءُ- بِالْفَتْحِ فِيهِمَا- قَالَ الشَّاعِرُ:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ** وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ

وَيُقَالُ: أُحْصِنَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا تَزَوَّجَتْ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ فِي حِصْنِ الرَّجُلِ وَحِمَايَتِهِ، وَيُقَالُ: أَحْصَنَهَا أَهْلُهَا إِذَا زَوَّجُوهَا، وَمِنْ شَأْنِ الْمُتَزَوِّجَةِ أَنْ تُحَصِّنَ نَفْسَهَا فَتَكْتَفِيَ بِزَوْجِهَا عَنِ التَّطَلُّعِ إِلَى الرِّجَالِ لِأَجْلِ حَاجَةِ الطَّبِيعَةِ، وَتُحَصِّنَ زَوْجَهَا عَنِ التَّطَلُّعِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ، فَعَلَى الْمَرْأَةِ الْمُعَوَّلُ فِي الْإِحْصَانِ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّ لَفْظَ الْمُحْصَنَةِ- بِفَتْحِ الصَّادِ- اسْمُ فَاعِلٍ نَطَقَتْ بِهِ الْعَرَبُ عَلَى خِلَافِ عَادَتِهَا، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَلُّ أَفْعَلَ اسْمُ فَاعِلِهِ بِالْكَسْرِ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَحْرُفٍ: أَحْصَنَ، أَلْفَجَ إِذَا ذَهَبَ مَالُهُ، وَأَسْهَبَ إِذَا كَثُرَ كَلَامُهُ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ، وَعَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْعَفِيفَةَ يُقَالُ لَهَا: مُحْصَنَةٌ- بِفَتْحِ الصَّادِ- وَمُحْصِنَةٌ- بِكَسْرِهَا- وَأَمَّا الْمَرْأَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ فَيُقَالُ لَهَا: مُحْصَنَةٌ- بِالْفَتْحِ- لَا غَيْرَ، وَجَمَاهِيرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ- وَمِنْهُمْ أَئِمَّةُ الْفِقْهِ الْمَشْهُورُونَ- عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ هَاهُنَا الْمُتَزَوِّجَاتُ، وَقِيلَ: هُنَّ الْحَرَائِرُ، وَقِيلَ: عَامٌّ فِي الْحَرَائِرِ وَالْعَفَائِفِ وَالْمُتَزَوِّجَاتِ، وَقَدْ يُقَالُ: هُنَّ الْحَرَائِرُ الْمُتَزَوِّجَاتُ، وَسَيَأْتِي عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ مَا يُرَجِّحُهُ، وَلِمَاذَا قَالَ: مِنَ النِّسَاءِ وَصِيغَةُ الْجَمْعِ مُغْنِيَةٌ عَنْ هَذَا الْقَيْدِ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: النُّكْتَةُ فِي ذَلِكَ: تَأْكِيدُ الْعُمُومِ، وَلَمْ يَرَ قَوْلَهُ كَافِيًا وَافِيًا، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِغُمُوضِ النُّكْتَةِ فِي ذَلِكَ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَدِ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ حَتَّى رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ مَنْ يُفَسِّرُهَا لِي لَضَرَبْتُ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْإِبِلِ، أَيْ: لَسَافَرَ إِلَيْهِ وَإِنْ بَعُدَ مَكَانُهُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ يَكَادُ يَكُونُ بَدِيهِيًّا؛ فَإِنَّ لَفْظَ الْمُحْصَنَاتِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْعَفِيفَاتُ، أَوِ الْمُسْلِمَاتُ، فَلَوْ لَمْ يَقُلْ هُنَا: مِنَ النِّسَاءِ، لَتَوَهَّمَ أَنَّ {الْمُحْصَنَاتِ} إِنَّمَا يَحْرُمُ نِكَاحُهُنَّ إِذَا كُنَّ مُسْلِمَاتٍ، فَأَفَادَ هَذَا الْقَيْدُ الْعُمُومَ وَالْإِطْلَاقَ، أَيْ أَنَّ عَقْدَ الزَّوْجِيَّةِ مُحْتَرَمٌ مُطْلَقًا لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْكَافِرَاتِ وَالْحَرَائِرِ وَالْمَمْلُوكَاتِ، فَيَحْرُمُ تَزَوُّجُ أَيَّةِ امْرَأَةٍ فِي عِصْمَةِ رَجُلٍ وَحِصْنِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمُحْصَنَاتِ أَيْ: إِلَّا مَا سَبَيْتُمْ مِنْهُنَّ فِي حَرْبٍ دِينِيَّةٍ تُدَافِعُونَ فِيهَا عَنْ حَقِيقَتِكُمْ، أَوْ تُؤَمِّنُونَ بِهَا دَعْوَةَ دِينِكُمْ، وَرَأَيْتُمْ مِنَ الْمَصْلَحَةِ أَلَّا تُعَادَ السَّبَايَا إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ الْكُفَّارِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْحَلُّ عَقْدُ زَوْجِيَّتِهِنَّ وَيَكُنَّ حَلَالًا لَكُمْ بِالشُّرُوطِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الشَّرِيعَةِ، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ تَحَرُّجُ الصَّحَابَةِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِسَبَايَا (أَوْطَاسٍ) وَأَخْرَجَ الْحَدِيثَ أَيْضًا أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ التَّصْرِيحُ بِاشْتِرَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ بِوَضْعِ الْحَامِلِ لِحَمْلِهَا وَحَيْضِ غَيْرِهَا، ثُمَّ طُهْرِهَا، وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَالْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّ مَنْ سُبِيَ مَعَهَا زَوْجُهَا لَا تَحِلُّ لِغَيْرِهِ، فَاعْتَبَرُوا فِي الْحِلِّ اخْتِلَافَ الدَّارِ: دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّ اخْتِلَافَ الدَّارِ لَا دَخْلَ فِي حِلِّ السَّبَايَا، وَإِنَّمَا سَبَبُهُ أَنَّ مَنْ سُبِيَتْ دُونَ زَوْجِهَا، فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَحِلُّ لِلسَّابِي بَعْدَ اسْتِبْرَاءِ رَحِمِهَا لِلشَّكِّ فِي حَيَاةِ زَوْجِهَا، أَيْ: وَعَدَمُ الطَّمَعِ فِي لُحُوقِهِ بِهَا إِنْ فُرِضَ أَنَّهُ بَقِيَ حَيًّا إِلَّا عَلَى سَبِيلِ النُّدُورِ الَّذِي لَا حُكْمَ لَهُ، وَهَذَا يَنْطَبِقُ عَلَى الْحِكْمَةِ الْعَامَّةِ فِي حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْمَمْلُوكَاتِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الشَّأْنُ الْغَالِبُ أَنْ يُقْتَلَ بَعْضُ أَزْوَاجِهِنَّ وَيَفِرَّ بَعْضُهُمُ الْآخَرُ حَتَّى لَا يَعُودَ إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَفَالَةُ هَؤُلَاءِ السَّبَايَا بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِنَّ، وَمَنْعِهِنَّ مِنَ الْفِسْقِ، كَانَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ لَهُنَّ وَلِلْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ- أَوْ أَكْثَرَ- كَافِلٌ يَكْفِيهَا هَمَّ الرِّزْقِ وَبَذْلَ الْعِرْضِ لِكُلِّ طَالِبٍ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْأَخِيرِ مِنَ الشَّقَاءِ عَلَى النِّسَاءِ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ الْخَيْرُ لَهُنَّ أَنْ يَرْجِعْنَ إِلَى بِلَادِهِنَّ فَمَنْ كَانَ زَوْجُهَا حَيًّا عَادَتْ إِلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ زَوْجُهَا مَفْقُودًا تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ أَوْ كَانَ شَرُّ فِسْقِهَا عَلَى قَوْمِهَا؟ نَقُولُ: إِنَّ الْإِسْلَامَ مَا فَرَضَ السَّبْيَ وَلَا أَوْجَبَهُ وَلَا حَرَّمَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ حَتَّى لِلسَّبَايَا أَنْفُسِهِنَّ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، وَمِنْهَا أَنْ تَسْتَأْصِلَ الْحَرْبُ جَمِيعَ الرِّجَالِ مِنْ قَبِيلَةٍ مَحْدُودَةِ الْعَدَدِ مَثَلًا، فَإِنْ رَأَى الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْخَيْرَ وَالْمَصْلَحَةَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَنْ تُرَدَّ السَّبَايَا إِلَى قَوْمِهِنَّ جَازَ لَهُمْ ذَلِكَ، أَوْ وَجَبَ عَمَلًا بِقَاعِدَةِ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ، وَكُلُّ هَذَا إِذَا كَانَتِ الْحَرْبُ دِينِيَّةً- كَمَا قَيَّدْنَا- فَإِنْ كَانَتِ الْحَرْبُ لِمَطَامِعِ الدُّنْيَا وَحُظُوظِ الْمُلُوكِ فَلَا يُبَاحُ فِيهَا السَّبْيُ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَهَذِهِ عِبَارَتُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ:
الْمُحْصَنَاتُ: الْمُتَزَوِّجَاتُ، وَمَا مَلَكَتِ الْأَيْمَانُ بِالسَّبْيِ فِي حَرْبٍ دِينِيَّةٍ وَأَزْوَاجُهُنَّ كُفَّارٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَنْفَسِخُ نِكَاحُهُنَّ، وَيَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعُ بِهِنَّ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ مَا مَلَكَتِ الْأَيْمَانُ يَشْمَلُ الْمَمْلُوكَةَ الْمُتَزَوِّجَةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى سَيِّدِهَا أَنْ يَفْتَرِشَهَا بِالْإِجْمَاعِ! فَالْجَوَابُ أَنَّ الْعُمُومَ هُنَا مَخْصُوصٌ بِالْمَسْبِبَّاتِ، وَسَكَتَ عَنِ الْمَمْلُوكَاتِ الْمُتَزَوِّجَاتِ؛ لِأَنَّ التَّزَوُّجَ بِالْمَمْلُوكَاتِ خِلَافُ الْأَصْلِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي الشَّرْعِ، وَالذَّوْقِ وَالْعَقْلِ، فَهُوَ كَالتَّنْبِيهِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ؛ وَلِذَلِكَ شَدَّدَ فِيهِ- كَمَا يَأْتِي- وَيُزَادُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَ التَّنْزِيلِ. اهـ.
أَقُولُ: وَالَّذِي تَبَادَرَ إِلَى فَهْمِي أَنَّ الْمُرَادَ بِـ {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} هُنَا نُشُوءُ الْمِلْكِ وَحُدُوثُهُ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ فِي مَقَامِ التَّشْرِيعِ لَا يُرَادُ بِهِ الْإِخْبَارُ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْإِنْشَاءُ، فَالْمَعْنَى: وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمُحْصَنَاتُ أَيِ الْمُتَزَوِّجَاتُ إِلَّا مَنْ طَرَأَ عَلَيْهِنَّ الْمِلْكُ، وَإِنَّمَا يَطْرَأُ الْمِلْكُ عَلَى الْمُتَزَوِّجَةِ بِالسَّبْيِ بِشَرْطِهِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَأَمَّا الْمَمْلُوكَةُ الَّتِي زَوَّجَهَا سَيِّدُهَا فَالزَّوَاجُ فِيهَا هُوَ الَّذِي طَرَأَ عَلَى الْمِلْكِ بِجَعْلِ الْمِلْكِ مَا لَهُ مِنْ حَقِّ الِاسْتِمْتَاعِ لِلزَّوْجِ، فَإِذَا أَخْرَجَهَا الْمَالِكُ الَّذِي زَوَّجَهَا مِنْ مِلْكِهِ بِنَحْوِ بَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ كَانَ بَائِعًا أَوْ وَاهِبًا مَا يَمْلِكُهُ، وَهُوَ مَا عَدَا الِاسْتِمْتَاعَ الَّذِي صَارَ حَقَّ الزَّوْجِ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَمِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ الْمِلْكَ الْجَدِيدَ يُبْطِلُ نِكَاحَهَا فَتُطَلَّقُ عَلَى زَوْجِهَا وَتَحِلُّ لِمَالِكِهَا الْجَدِيدِ عَمَلًا بِعُمُومِ الْآيَةِ، وَيُقَالُ: إِنَّ عَلَيْهِ جُمْهُورَ الْإِمَامِيَّةِ، وَلَوْلَا مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِزَوَاجِ الْأَمَةِ حَتَّى كَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ، وَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ كَوْنِ الْبَائِعِ أَوِ الْوَاهِبِ إِنَّمَا بَاعَ أَوْ وَهَبَ مَا يَمْلِكُ، لَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ أَرْجَحَ مِنْ مَذْهَبِ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ إِلَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُحْصَنَاتِ هُنَا يَعُمُّ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ وَالْعَفِيفَاتِ وَالْحَرَائِرَ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ يَعُمُّ مِلْكَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّكَاحِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالتَّسَرِّي، وَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ: وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ كُلُّ أَجْنَبِيَّةٍ إِلَّا بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَهُوَ مِلْكُ الِاسْتِمْتَاعِ، أَوْ بِمِلْكِ الْعَيْنِ الَّذِي يَتْبَعُهُ حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَالسُّدِّيِّ مِنْ مُفَسِّرِي التَّابِعِينَ، وَفُقَهَائِهِمْ وَعَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَيْضًا وَاخْتَارَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَفِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ مَا تَرَى، وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْأَمَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ كَافِرَةً وَسَبَاهَا الْمُسْلِمُونَ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَبُطْلَانُ نِكَاحِهَا بِالسَّبْيِ أَوْلَى مِنْ بُطْلَانِ نِكَاحِ الْحُرَّةِ بِهِ.